الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الزمخشري: سورة المدثر صلى الله عليه وسلم مكية.وهي ست وخمسون آية.نزلت بعد المزمل.بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ.[المدثر: الآيات 1- 5] {يا أيُّها الْمُدّثِّرُ (1) قُمْ فأنْذِرْ (2) وربّك فكبِّرْ (3) وثِيابك فطهِّرْ (4) والرُّجْز فاهْجُرْ (5)}{الْمُدّثِّرُ} لابس الدثار، وهو ما فوق الشعار: وهو الثوب الذي يلي الجسد. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «الأنصار شعار والناس دثار» وقيل: هي أول سورة نزلت. وروى جابر بن عبد اللّه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «كنت على جبل حراء فنوديت: يا محمد، إنك رسول اللّه، فنظرت عن يمينى ويساري فلم أر شيأ، فنظرت فوقى فرأيت شيئا». وفي رواية عائشة: «فنظرت فوقى فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض- يعنى الملك الذي ناداه- فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني، فنزل جبريل وقال: {يا أيها المدثر}»وعن الزهري: أول ما نزل: سورة {اقرأ باسم ربك} إلى قوله: {ما لمْ يعْلمْ} فحزن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال: إنك نبىّ اللّه، فرجع إلى خديجة وقال: «دثروني وصبوا عليّ ماء باردا»، فنزل: {يا أيها المدثر}. وقيل: سمع من قريش ما كرهه فاغتم، فتغطي بثوبه مفكرا كما يفعل المغموم. فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه.وعن عكرمة أنه قرأ على لفظ اسم المفعول. من دثره. وقال: دثرت هذا الأمر وعصب بك، كما قال في المزمّل: قم من مضجعك. أو قم قيام عزم وتصميم {فأنْذِرْ} فحذر قومك من عذاب اللّه إن لم يؤمنوا. والصحيح أنّ المعنى: فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد {وربّك فكبِّرْ} واختص ربك بالتكبير: وهو الوصف بالكبرياء، وأن يقال: اللّه أكبر. ويروى أنه لما نزل قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «اللّه أكبر» فكبرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحى، وقد يحمل على تكبير الصلاة، ودخلت الفاء لمعنى الشرط. كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره {وثِيابك فطهِّرْ} أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات، لأنّ طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا. وقيل: هو أمر بتقصيرها، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك ما لا يؤمن معه إصابة النجاسات. وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات. يقال: فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل والأردان إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق. وفلان دنس الثياب للغادر، وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه، فكنى به عنه. ألا ترى إلى قولهم: أعجبنى زيد ثوبه، كما يقولون: أعجبنى زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه، والكرم تحت حلته، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عنى بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبث وإيثار الطهر في كل شيء {والرُّجْز} قرئ بالكسر والضم، وهو العذاب، ومعناه: اهجر ما يؤدى إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى: الثبات على هجره، لأنه كان بريئا منه..[المدثر: الآيات 6- 7] {ولا تمْنُنْ تسْتكْثِرُ (6) ولِربِّك فاصْبِرْ (7)}.قرأ الحسن: {ولا تمنّ وتستكثر}، مرفوع منصوب المحل على الحال، أى: ولا تعط مستكثرا رائيا لما تعطيه كثيرا، أو طالبا للكثير: نهى عن الاستغزار: وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب، وهذا جائز. ومنه الحديث «المستغزر يثاب من هبته» وفيه وجهان:أحدهما: أن يكون نهيا خاصا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لأنّ اللّه تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق.والثاني: أن يكون نهى تنزيه لا تحريم له ولأمّته.وقرأ الحسن: {تستكثر}، بالسكون. وفيه ثلاثة أوجه، الإبدال من {تمنن}. كأنه قيل: ولا تمنن لا تستكثر، على أنه من المنّ في قوله عز وجل: {ثُمّ لا يُتْبِعُون ما أنْفقُوا منّا ولا أذى} لأنّ من شأن المنان بما يعطى أن يستكثره، أى: يراه كثيرا ويعتدّ به، وأن يشبه ثرو بعضد، فيسكن تخفيفا، وأن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار (أن) كقوله:وتؤيده قراءة ابن مسعود: {ولا تمنن أن تستكثر}. ويجوز في الرفع أن تحذف (أن) ويبطل عملها، كما روى: أحضر الوغى بالرفع، {ولِربِّك فاصْبِرْ} ولوجه اللّه، فاستعمل الصبر.وقيل: على أذى المشركين. وقيل: على أداء الفرائض. وعن النخعي: على عطيتك، كأنه وصله بما قبله، وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار. والوجه أن يكون أمرا بنفس الفعل، وأن يتنأول على العموم كل مصبور عليه ومصبور عنه، ويراد الصبر على أذى الكفار، لأنه أحد ما يتنأوله العام. .[المدثر: الآيات 8- 10] {فإِذا نُقِر فِي النّاقُورِ (8) فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ (9) على الْكافِرِين غيْرُ يسِيرٍ (10)}.والغاء في قوله: {فإِذا نُقِر} للتسبيب، كأنه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في فذلِك للجزاء. فإن قلت: بم انتصب إذا، وكيف صح أن يقع {يوْمئِذٍ} ظرفا لـ: {يوم عسير}؟قلت: انتصب إذا بما دلّ عليه الجزاء، لأنّ المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، والذي أجاز وقوع {يوْمئِذٍ} ظرفا ليوم عسير: أنّ المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأنّ يوم القيامة يأتى ويقع حين ينقر في الناقور. واختلف في أنها النفخة الأولى أم الثانية. ويجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل، بدلا من {فذلِك} و{يوْمٌ عسِيرٌ} خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير.فإن قلت: فما فائدة قوله: {غيْرُ يسِيرٍ} و{عسِيرٌ} مغن عنه؟قلت: لما قال: {على الْكافِرِين} فقصر العسر عليهم قال: {غيْرُ يسِيرٍ} ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم.ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسر العسير من أمور الدنيا..[المدثر: الآيات 11- 25] {ذرْنِي ومنْ خلقْتُ وحِيدا (11) وجعلْتُ لهُ مالا ممْدُودا (12) وبنِين شُهودا (13) ومهّدْتُ لهُ تمْهِيدا (14) ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد (15) كلاّ إِنّهُ كان لِآياتِنا عنِيدا (16) سأُرْهِقُهُ صعُودا (17) إِنّهُ فكّر وقدّر (18) فقُتِل كيْف قدّر (19) ثُمّ قُتِل كيْف قدّر (20) ثُمّ نظر (21) ثُمّ عبس وبسر (22) ثُمّ أدْبر واسْتكْبر (23) فقال إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثرُ (24) إِنْ هذا إِلاّ قول الْبشرِ (25)}وحِيدا حال من اللّه عز وجل على معنيين، أحدهما. ذرني وحدي معه، فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. أو حال من المخلوق على معنى: خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد، كقوله: {ولقدْ جِئْتُمُونا فُرادى كما خلقْناكُمْ أول مرّةٍ} وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وكان يلقب في قومه بالوحيد، ولعله لقب بذلك بعد نزول الآية، فإن كان ملقبا به قبل فهو تهكم به وبلقبه، وتغيير له عن الغرض الذي كانوا يؤمونه- من مدحه، والثناء عليه بأنه وحيد قومه لرياسته ويساره وتقدّمه في الدنيا- إلى وجه الذم والعيب: وهو أنه خلق وحيدا لا مال له ولا ولد، فآتاه اللّه ذلك، فكفر بنعمة اللّه وأشرك به واستهزأ بدينه ممْدُودا مبسوطا كثيرا: أو ممدّا بالنماء، من مدّ الهر ومدّ نهره آخر. قيل: كان له الزرع والضرع والتجارة. وعن ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال. وقيل: كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره صيفا وشتاء.وقيل: كان له ألف مثقال. وقيل: أربعة آلاف. وقيل تسعة آلاف. وقيل: ألف ألف. وعن ابن جريج: غلة شهر بشهر وبنِين شُهودا حضورا معه بمكة لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة، لأنهم مكفيون لوفور نعمة أبيهم واستغنائهم عن التكسب وطلب المعاش بأنفسهم، فهو مستأنس بهم لا يشتغل قلبه بغيبتهم، وخوف معاطب السفر عليهم ولا يحزن لفراقهم والاشتياق إليهم. ويجوز أن يكون معناه: أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل. أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه. وعن مجاهد: كان له عشرة بنين. وقيل: ثلاثة عشر. وقيل:سبعة كلهم رجال: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس:أسلم منهم ثلاثة: خالد، وهشام، وعمارة {ومهّدْتُ لهُ تمْهِيدا} وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه، فأتممت عليه نعمتي المال والجاه واجتماعهما: هو الكمال عند أهل الدنيا. ومنه قول الناس: أدام اللّه تأييدك وتمهيدك، يريدون: زيادة الجاه والحشمة. وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم، ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش {ثُمّ يطْمعُ} استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه، يعنى أنه لا مزيد على ما أوتى سعة وكثرة. وقيل: إنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي كلّا ردع له وقطع لرجائه وطمعه {إِنّهُ كان لِآياتِنا عنِيدا} تعليل للردع على وجه الاستئناف، كأن قائلا قال: لم لا يزاد؟ فقيل: إنه عاند آيات المنعم وكفر بذلك نعمته، والكافر لا يستحق المزيد: ويروى: أنه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك {سأُرْهِقُهُ صعُودا} سأغشيه عقبة شاقة المصعد: وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت» وعنه عليه السلام: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك أبدا»، إِنّهُ فكّر تعليل الوعيد، كأن اللّه تعالى عاجله بالفقر بعد الغنى، والذل بعد العز في الدنيا بعناده، ويعاقب في الآخرة بأشدّ العذاب وأفظعه لبلوغه بالعناد غايته وأقصاه في تفكيره، وتسميته القرآن سحرا. ويجوز أن تكون كلمة الردع متبوعة بقوله: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} ردّا لزعمه أن الجنة لم تخلق إلا له، وإخبارا بأنه من أشدّ أهل النار عذابا، ويعلل ذلك بعناده، ويكون قوله: {إِنّهُ فكّر} بدلا من قوله: {إِنّهُ كان لِآياتِنا عنِيدا} بيانا لكنه عناده. ومعناه فكر ماذا يقول في القرآن وقدّر في نفسه ما يقول وهيأه {فقُتِل كيْف قدّر} تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحز. ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش. أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به. أو هي حكاية لما كرروه من قولهم. قتل كيف قدّر تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله. ومعنى قول القائل: قتله اللّه ما أشجعه. وأخزاه اللّه ما أشعره: الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك. روى أنّ الوليد قال لبنى مخزوم: واللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إنّ له لحلأوة، وإنّ عليه لطلأوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى، فقالت قريش: صبأ واللّه الوليد، واللّه لتصبأن قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق، وتقولون إنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهن، وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط، وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب، فقالوا في كل ذلك: اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلا ساحر. أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل، فارتج النادي فرحا، وتفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه ثُمّ نظر في وجوه الناس، ثم قطب وجهه، ثم زحف مدبرا، وتشأوس مستكبرا لما خطرت بباله الكلمة الشنعاء، وهمّ بأن يرمى بها وصف أشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما استنبط، استهزاء به.وقيل: قدّر ما يقوله، ثم نظر فيه، ثم عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول. وقيل: قطب في وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم {ثُمّ أدْبر} عن الحق {واسْتكْبر} عنه فقال ما قال. و{ثُمّ نظر} عطف على {فكّر وقدّر} والدعاء: اعتراض بينهما. فإن قلت: ما معنى {ثُمّ} الداخلة في تكرير الدعاء؟قلت، الدلالة على أن الكرّة الثانية أبلغ من الأولى. ونحوه قوله:فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت، الدلالة على أنه قد تأتى في التأمّل وتمهل، وكأنّ بين الأفعال المنناسقة تراخ وتباعد. فإن قلت: فلم قيل فقال إِنْ هذا بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟ قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد.
|